مقالات رأي

في ذكرى انتصارات السادس من أكتوبر

لواء دكتور/ سمير فرج

يهل علينا شهر أكتوبر، كل عام، حاملاً مع أغلى وأجمل ذكريات العمر للشعب المصري وقواته المسلحة، التي حققت في هذا الشهر أغلى انتصارات الأمة المصرية في العصر الحديث، وهو انتصار حرب أكتوبر 1973.

ولعل الأجيال الجديدة من أبناء الشعب المصري، ممن لم يعاصروا تلك الفترة، لا يعلمون أنه يوم واحد فحسب، وإنما حقبة كاملة، بدأت من يوم هزيمة يونيو 67، عندما استولى العدو الإسرائيلي على شبه جزيرة سيناء، بالكامل، ورفع أعلامه على الضفة الشرقية لقناة السويس، وتوقفت حركة الملاحة في القناة، لتبدأ بعدها حرب الاستنزاف، التي حارب فيها الشعب المصري وجيشه العظيم، ملحمة دامت لست سنوات، تم خلالهم تهجير ثلاث مدن هي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، بالتزامن مع إعادة تسليح وتنظيم وتدريب الجيش المصري على الأسلحة الجديدة، والتخطيط لحرب أكتوبر ،73 والتدريب على الخطة. وجاء اليوم السادس من أكتوبر لتبدأ القوات المسلحة المصرية أعظم حروبها في التاريخ الحديث، وتحقق نصراً مبيناً على الجيش الإسرائيلي، الذي طالما أدعى أنه الجيش الذي لا يقهر!

وفي كل عام استعيد ذكرى هذا اليوم بكل تفاصيله، الذي كنت فيه أحد ضباط غرفة عمليات القوات المسلحة، فتلك التفاصيل لم تفارقني يوماً، وكأنها كانت بالأمس القريب، عندما دخلنا غرفة العمليات في الصباح، وكل من بداخلها على علم بأن اليوم، هو يوم الهجوم، واقتحام قناة السويس … وبدأت البلاغات الأولى تتوالى، من استلام المهمة للقادة بتوقيت الهجوم، وتمام استعداد مجموعة المدمرات والغواصات في البحر الأحمر، لتنفيذ مهمة إغلاق مضيق باب المندب، أمام الملاحة الإسرائيلية.

وفي تمام الساعة الثانية عشر ظهراً، رفعنا خرائط التدريب من على جدران مركز العمليات، لنضع خرائط “الخطة جرانيت”، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، وتكوين رأس كوبري بعمق 15 كم شرق قناة السويس. وفي الواحدة ظهراً، وقبل بدء الهجوم، حضر الرئيس محمد أنور السادات، إلى غرفة العمليات، يتبعه جنود يحملون الشطائر والعصائر، ليبلغنا بأن فضيلة مفتي الديار المصرية قد أباح لنا، نحن المقاتلون على الجبهة، الإفطار في رمضان. وبدأ الجنود في توزيع الشطائر والعصائر، والحقيقة أن الجميع وضعوها في الأدراج، فمن منا يهتم بطعام أو شراب في تلك اللحظات الحاسمة من عمر الوطن.

وبدأ العد التنازلي لشن الحرب، وتلقينا البلاغات بوصول قواتنا خلف الخطوط، في عمق سيناء، لإبلاغنا عن تحرك احتياطيات الجانب الإسرائيلي، وما هي إلا دقائق حتى انطلقت قواتنا الجوية في ضربتها الأولى، معلنة بدء الهجوم، ورأينا على شاشات مركز العمليات، طائراتنا الحربية تعبر القناة، فتيقنا حينها أن المعركة قد بدأت، بعد سنوات وسنوات من الانتظار … وبدأت البلاغات تتوالى بسقوط نقاط خط بارليف … وعبور موجات الاقتحام الأولى وفقاً لخطة “التوجيه 41″، التي أعدها الفريق سعد الدين الشاذلي.

ولازلت أتذكر أن أجمل خبر أسعدني يوم السادس من أكتوبر 73، هو التقاط المخابرات الحربية المصرية، لإشارة لاسلكية موجهة من قائد القوات الجوية الإسرائيلية، لجميع طياريه، بمنع الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كم، بعدما شاهد كثافه حائط الصواريخ المصري، على شاشة الرادار الإسرائيلي. أرسل تلك الرسالة دون تشفير، غير عابئ بالتقاطنا لها، أمام محاولة إنقاذ قواته … ساعتها تيقنت أن الهجوم المصري سينجح، وأن قواتنا البرية ستعبر القناة، وتقتحم خط بارليف، بعدما تمكنت من شل حركة القوات الجوية الإسرائيلية، وتحييد قدرتها على التدخل في هذه العملية … فكان لرجال الدفاع الجوي المصري فضل عظيم وكبير، في تحقيق النصر في ملحمة أكتوبر 73.

وبعد اقتحام الموجات الأولى من قوات المشاة لخطة بارليف، واندفاعها في عمق سيناء، بدأ رجال المهندسون العسكريون في فتح الثغرات في الساتر الترابي، بواسطة مضخات المياه، تلك الفكرة العبقرية التي اقترحها اللواء باقي زكي يوسف، الضابط المهندس، اعتماداً على خبرته في بناء السد العالي، ونجحت قواتنا في فتح الثغرات في الساتر الترابي بارتفاع 20 متر في أربع ساعات, وبعد عبور موجات العبور، وعددها 12، بالقوارب المطاطية، ومع آخر ضوء، تقدمت عربات الكباري لتلقي بالبراطيم في قناة السويس، لإنشاء خمس كباري، بمعدل كوبري لكل فرقة مشاة. ومع سطوع القمر، كانت الكباري قد اكتملت، فاندفعت الدبابات المصرية في مهمة العبور للضفة الشرقية، يليها وحدات المدفعية، وعربات القيادة على مختلف المستويات. ومع صباح يوم السابع من أكتوبر، كانت فرق مشاة الخمس، بقوام 200 ألف مقاتل مصري، قد وصلت للضفة الشرقية للقناة، وأسقطت نقاط خط بارليف، وتصدت ودمرت كل الاحتياطات المدرعة الإسرائيلية، التي فشلت في تدمير قواتنا التي عبرت القناة.

وفي يوم التاسع من أكتوبر من عام 1973، ذلك اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل، وقفت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، حينها، وبجانبها وزير دفاعها، موشى ديان، في مؤتمر صحفي عالمي، لتعلن هزيمة إسرائيل، وتعترف بأن بلادها تصارع، في تلك اللحظة، من أجل البقاء. ورغم الدعم الرهيب الذي وفرته الولايات المتحدة، بمد جسر جوي لإسرائيل لإمدادها بأحدث الأسلحة العسكرية في الترسانة الأمريكية، إلا أنها لم تتمكن من النيل من عزيمة المقاتل المصري، التي حققت هذا النصر العظيم. تلك العزيمة التي شهد لها الجنرال شارون، في مناظرة لي معه، في أعقاب الحرب، عندما سأله خبراء معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن “IISS”، عن أكبر مفاجأة تلقاها الإسرائيليون في حرب أكتوبر، فقال “الجندي المصري الجديد”.

وهكذا يظل يوم السادس من أكتوبر رمزاً لفخر الشعب المصري وجيشه العظيم.

Email: [email protected]