بمناسبة يوم الأب ، اليوم 21 يونيو ..ولذلكَ خُلِقْتَ أَيُّهَا النَّدَمُ !

الدكتور عادل اليماني يكتب :
يقولُ أحدُهم :
كانَ أبي إذا دخلَ غُرفتي ، ووجدَ المصباحَ مضاءً ، وأنا خارجُها ، قالَ ليَّ : لِمَ لا تطفئُه ؟ ولماذا كُلُّ هَذَا التبذيرِ في الكهرباء ؟
إذا دخلَ دورةَ المياهِ ، ووجدَ ( الحنفيةَ ) تقْطُرُ ماءً ، قالَ بصوتٍ عالٍ : لِمَ لا تُحكمُ غلقَها ، قبلَ خُروجِك ؟ ولماذا كُلُّ هَذَا الهدرِ في المياهِ ؟
دائماً ينتقدُني ، ويتهمُني بالسلبيةِ ،
ويُعاتبُني على الصغيرةِ والكبيرةِ !!
حتى وهو على فراشِ المرضِ .
إلى أنْ جاءَ يومٌ ، تهيأتْ أمامي فيه فرصةُ عملٍ ، وكانَ يوماً طالما انتظرتُه .
اليومَ ستكونُ المقابلةُ الشخصيةُ الأولى في حياتيِّ ، للفوزِ بوظيفةٍ مرموقةٍ ، في إحدى الشركاتِ الكُبرى ، وإنْ تمَّ قَبولي ، فسأتركُ هَذَا البيتَ ، إلى غير ِرجعةٍ ، وسأرتاحُ من توبيخِ أبي الدائمِ ليِّ .
استيقظتُ في الصباحِ الباكرِ ، ولَبِستُ أجملَ الثيابِ ، وتعطرتُ ، وهممتُ بالخروجِ ، فإذا بيدٍ تُطبطبُ على كَتِفيِّ ، عندَ البابِ .
التفتُ ، فوجدتُ أبي مُبتسماً ، رغمَ ذُبولِ عينيه ، وظهورِ أعراضِ المرضِ جليةً على وجهِه .
أعطاني بعضَ النقودِ ، وقالَ ليَّ : أريدُك أنْ تكونَ إيجابياً واثقاً من نفسِك ، ولا تهتزْ أمامَ أيِّ سؤالٍ .
أمازلتَ تنصحُ يا أبي ! أما آنَ أنْ يتوقفَ الأمرُ ؟ وكأنَّك تتعمدُ تعكيرَ مزاجيِّ ، في أسعدِ لحظاتِ حياتيِّ .
خرجتُ من البيتِ مسرعاً ، وتوجهتُ إلى الشركةِ ، ومكنتْني النقودُ التي أخذتُها من أبي ، من استئجارِ سيارةٍ ، وكانَ هَذَا أنسبَ كثيراً ، للمحافظةِ علي أناقتيِّ ، وعدمِ تضييعِها في المواصلاتِ العامةِ المزدحمةِ .
وما أنْ وصلتُ ، ودخلتُ من بوابةِ الشركةِ ، حتى أصابني العجبُ !!
فلم يكنْ هُناكَ حُراسٌ عندَ البابِ ، ولا موظفُ استقبالٍ ، سوى لوحاتٍ إرشاديةٍ ، تقودُ إلى مكانِ المقابلةِ .
وفورَ دخولي من البابِ ، لاحظتُ أنْ مَقْبِضَ البابِ قد خرجَ من مكانِه ، وأصبحَ مُعرضاً للكسرِ ، إنْ اصطدمَ به أحدٌ ، فتذكرتُ ( نصيحةَ) أبي ليَّ ، عندَ خُروجي من المنزلِ ، بأنْ أكونَ ( إيجابياً ) فقمتُ على الفورِ بردِ مَقْبِضِ البابِ إلى مكانِه ، وأحكمتُه جيداً .
ثم تتبعتُ اللوحاتِ الإرشاديةَ ، ومررتُ بحديقةِ الشركةِ ، فوجدتُ الممراتِ غارقةً بالمياهِ ، التي كانتْ تطفو من أحدِ الأحواضِ الزراعيةِ ، الذي امتلأَّ بالماءِ حتي آخرِه ، وقد بدا أنَّ البستانيَّ قد انشغلَ عنه ، فتذكرتُ تعنيفَ أبي ليِّ على هدرِ المياهِ ، فقمتُ بسحبِ خرطومِ المياهِ ، من الحوضِ الممتلئِّ ، ووضعتُه في حوضٍ آخرَ ، مع تقليلِ ضَخِ الصنبورِ ، حتى لا يمتلئَّ بسرعةٍ ، إلى أنْ يعودَ البستانيُّ .
ثم دخلتُ مبنى الشركةِ ، متبعاً تعليماتِ اللوحاتِ ، وخلالَ صعوديِّ على الدَرَجِ ، لاحظتُ الكمَ الهائلَ من مصابيحِ الإنارةِ المُضاءةِ ، ونحنُ في وَضَحِ النهارِ ، فقمتُ ، لا إرادياً ، بإطفائِها ، خوفاً من صُّرَاخِ أبي ، الحاضرِ دوماً في عقلي !!
إلى أنْ وصلتُ إلى الدورِ العلويِّ ، ففوجئتُ بالعددِ الكبيرِِ من المتقدمين لهَذِهِ الوظيفةِ .
سجلتُ اسمي في القائمةِ ، وجلستُ انتظرُ دوري ، وأنا أتمعنُ في وجوهِ الحاضرين وملابسِهم ، لدرجةٍ جعلتْني أشعرُ بالدونيةِ ، من ملابسي وهيئتي ، أمامَ ما رأيتُه ، والبعضُ يتباهى بشهاداتِه الحاصلِ عليها ، من الجامعاتِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ .
ثم لاحظتُ أنْ كُلَّ مَنْ يدخلُ المقابلةَ ، ما يلبثُ أنْ يدخُلَ ، حتي يخرجَ ، في أقلَ من دقيقةٍ !
فقلتُ في نفسي ، إنْ كانَ هؤلاءِ بأناقتِهم وشهاداتِهم ، ويقيناً بوساطاتِهم ، قد رُفِضوا ، فهل سيقبلونني ؟! فهَممتُ بالانسحابِ والخروجِ ، من هَذِهِ المنافسةِ الخاسرةِ ، بكرامتي ، قبلَ أنْ يُقالَ ليَّ : نحنُ آسفون ! وبالفعلِ انتفضتُ من مكانيِّ ، فأسرعتُ بالخروجِ ، فإذا بالموظفِ يُنادي على اسمي للدخولِ ، فقلتُ : لا مناصَ ، سأدخلُ ، وأمري إلى اللهِ ، وعلي كُلِّ الأحوالِ ، ما هي إلا ثوانٍ معدودةٍ ، وينتهي كُلُّ شئٍّ ، وأعودُ راضياً من الغنيمةِ بالإيابِ !
دخلتُ غُرفةَ المقابلةِ ، وجلستُ على الكرسي ، أمامَ ثلاثةِ أشخاصٍ ، مَهيبين ، نظروا إليَّ بابتسامةٍ عريضةٍ ، ثم قالَ أحدُهم : متى تُحبُ أن تتسلّمَ الوظيفةَ ؟!
فذُهِلتُ ، وظننتُ أنَّهم يسخرون منيِّ ، أو أنَّه أحدُ أسئلةِ المقابلةِ ، ووراءَ هَذَا السؤالِ سرٌ لا أعرفُه ! فتذكرتُ (نصيحةَ ) أبي ليَّ ، عندَ خروجيِّ من المنزلِ بألا ( أهتزَ ) وأنْ أكونَ ( واثقاً ) من نفسيِّ .
فأجبتُهم بكُلِّ ثقةٍ : بعدَ أنْ أجتازَ الاختبارَ بنجاحٍ ، إنْ شاءَ اللهُ .
فقالَ آخرُ : لقد نجحتَ في الامتحانِ وانتهى الأمرُ ! فقلتُ : ولكنَّ أحداً منكم ، لم يسألْني سؤالاً واحداً !
فقالَ الثالثُ : نحنُ نُدركُ جيداً ، أنَّه من خلالِ طرحِ الأسئلةِ فقط ، لنْ نستطيعَ تقييمَ مهاراتِ أيٍّ من المتقدمين ، ولذا قررنا أنْ يكونَ تقييمُنا للشخصِ عملياً ..
فصممنا مجموعةَ اختباراتٍ عمليةٍ ، تكشفُ لنا سلوكَ المتقدمِ ، والإيجابيةَ التي يتمتعُ بها ، ومدي حرصِه على مُقدراتِ الشركةِ ، فكنتَ أنتَ الشخصَ الوحيدَ الذي سعى لإصلاحِ كُلِّ عيبٍ ، تعمدْنا وضعَه في طريقِ كُلِّ متقدمٍ ، وقد تمَّ توثيقُ ذلكَ ، بكاميراتِ مراقبةٍ ، وضعتْ في كُلِّ أروقةِ الشركةِ !
يقولُ الشابُ : حينَها فقط ، اختفتْ كُلُّ الوجوهِ أمامَ عينيِّ ، ونسيتُ الوظيفةَ والمقابلةَ ، وكُلَّ شئٍّ ، ولم أعدْ أرى إلا صورةَ أبي !!ذلكَ الذي العظيمُ ، الجادُ الرحيمُ ، الذي ظاهرُه القسوةُ ، وباطنُه الرحمةُ والحنانُ .
عُدتُ إلي البيتِ مُهرولاً ، لتقبيلِ يديه وقدميه .
عندَ بابِ منزليِّ ، رأيتُ أقاربي و الجيرانَ ، مجتمعين ، ينظرون اليَّ نظراتِ عطفٍ وأسي ، ففهمتُ أنَّني وصلتُ متاخراً ، وأنَّه فاتَ الأوانُ ، فقد ماتَ أبي ،ماتَ العقلُ الرشيدُ ، والركنُ الشديدُ ، والسندُ المتينُ ، والناصحُ الأمينُ . ماتَ قبلَ أنْ أقولَ له : أنتَ الصوابُ ، وأنا كنتُ الخطأَ !!