شي جينبينغ في قمة المناخ بالأمم المتحدة: الصين تعلن التزامات تاريخية جديدة وتدعو إلى عدالة مناخية عالمية

احمد دياب
في يوم الرابع والعشرين من سبتمبر 2025، ألقى الرئيس الصيني شي جينبينغ خطاباً افتراضياً أمام مؤتمر القمة المعني بالمناخ التابع للأمم المتحدة، في مناسبة استثنائية تزامنت مع الذكرى العاشرة لتوقيع اتفاق باريس للمناخ. لم يكن الخطاب مجرد مشاركة بروتوكولية، بل حمل في طياته مواقف صينية واضحة، ورسائل إلى المجتمع الدولي بأسره، تؤكد أن العالم يقف عند منعطف حاسم في مسيرة مواجهة التغير المناخي، وأن القرارات المتخذة اليوم سترسم ملامح المستقبل لعقود قادمة.
محطة تاريخية: عقد من اتفاق باريس
منذ إبرام اتفاق باريس في عام 2015، أصبح هذا الاتفاق الركيزة الأساسية لحوكمة المناخ العالمية. وقد ألزم الدول بخفض الانبعاثات الكربونية، وتقديم مساهمات محددة وطنياً (NDCs) تتجدد كل فترة زمنية. ومع حلول 2025، تبرز هذه الذكرى كموعد مهم لإعادة تقييم الالتزامات، ومضاعفة الجهود لمواجهة تحديات الاحتباس الحراري.
وفي خطابه، شدد الرئيس شي على أن “التحول الأخضر والمنخفض الكربون هو تيار العصر”، معتبراً أن الالتزام الجماعي بالمناخ لم يعد خياراً سياسياً أو اقتصادياً، بل أصبح قدراً لا مفر منه إذا أرادت الإنسانية الحفاظ على كوكب صالح للحياة.
أولاً: تثبيت الثقة في التحول الأخضر
أكد شي أن الثقة هي أساس النجاح. ورغم أن بعض الدول ــ في إشارة مبطنة إلى الولايات المتحدة أو دول أخرى ــ لا تزال تتصرف بشكل يتعارض مع تيار خفض الانبعاثات، فإن المجتمع الدولي مطالب بالتمسك بالمسار الصحيح. فالمناخ، كما أوضح الرئيس الصيني، ليس ساحة للصراعات الجيوسياسية أو المساومات التجارية، بل هو قضية وجودية تتعلق بمستقبل البشرية.
إن هذه الرسالة تستهدف بالأساس بث الطمأنينة لدى الدول النامية، التي تخشى أن تتحول قضية المناخ إلى عبء اقتصادي إضافي، أو أن تكون ساحة لفرض هيمنة جديدة من القوى الكبرى. وهنا تضع الصين نفسها في موقع “قائد ملهم” يسعى إلى الحفاظ على وحدة الصف العالمي.
ثانياً: المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة
تطرق شي جينبينغ إلى مبدأ جوهري نص عليه اتفاق باريس وهو “المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة”. فبينما يجب على جميع الدول أن تشارك في مواجهة التغير المناخي، فإن الدول المتقدمة تتحمل العبء الأكبر، لكونها تاريخياً المصدر الرئيسي لانبعاثات الغازات الدفيئة منذ الثورة الصناعية وحتى اليوم.
ولذلك دعا شي بوضوح إلى أن تقوم الدول الغنية بتنفيذ التزاماتها أولاً بخفض الانبعاثات، وأن تقدم الدعم المالي والتقني الكافي للدول النامية، بما يضمن لها الحق في التنمية المستدامة دون أن تقع في فخ الاعتماد على الطاقة الأحفورية.
إن هذا الطرح يعكس رؤية صينية قديمة ــ جديدة: حماية حق الدول النامية في النمو، ورفض أي سياسات قد توسع الفجوة بين الشمال والجنوب تحت غطاء “التحول الأخضر”.
ثالثاً: تعميق التعاون الدولي
لم يقتصر خطاب شي على المبادئ، بل تضمن دعوة عملية إلى تعزيز التعاون التكنولوجي والصناعي في مجال الطاقة النظيفة. وأكد أن سد الفجوة في القدرات الإنتاجية الخضراء هو السبيل لضمان تداول حر للمنتجات الخضراء عالية الجودة، بحيث تصبح التنمية المستدامة منفعة مشتركة لكل الشعوب.
هذه الرؤية تفتح الباب أمام الصين لتقديم نفسها كـ”مورد رئيسي للتكنولوجيا الخضراء”، من خلال صادراتها من الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، والسيارات الكهربائية. وهو ما ينسجم مع استراتيجيتها الاقتصادية التي تسعى إلى تعزيز مكانتها كقوة صناعية رائدة في السوق العالمية للطاقات المتجددة.
الالتزامات الجديدة للصين حتى 2035
من أبرز ما جاء في الخطاب إعلان شي جينبينغ عن دفعة جديدة من المساهمات المحددة وطنياً، والتي تعكس طموح الصين في قيادة الجهود المناخية خلال العقد المقبل. وتشمل هذه الالتزامات:
1. خفض صافي الانبعاثات: بحلول 2035، ستنخفض انبعاثات الغازات الدفيئة لجميع القطاعات الاقتصادية بنسبة تتراوح بين 7% و10% مقارنة بذروتها.
2. زيادة حصة الطاقة غير الأحفورية: ستتجاوز 30% من إجمالي استهلاك الطاقة، ما يعني تقليص الاعتماد على الفحم والنفط.
3. التوسع في الطاقة الريحية والشمسية: سترتفع القدرات المركبة إلى أكثر من 6 أضعاف مقارنة بعام 2020، لتصل إلى نحو 3.6 مليارات كيلوواط.
4. تعزيز الغطاء الغابي: سيصل حجم المخزون الغابي إلى أكثر من 24 مليار متر مكعب، في خطوة تهدف إلى امتصاص الكربون وتحسين التوازن البيئي.
5. السيارات الكهربائية: ستشكل المركبات العاملة بالطاقة الجديدة الجزء الأكبر من مبيعات السيارات في السوق الصينية.
6. توسيع سوق الكربون الوطنية: بحيث تشمل جميع القطاعات الرئيسية ذات الانبعاثات العالية، ما يخلق آلية اقتصادية للحد من التلوث.
7. بناء مجتمع متكيف مع المناخ: عبر سياسات شاملة لحماية المدن والمناطق الزراعية من تأثيرات التغير المناخي مثل الفيضانات والجفاف.
هذه الالتزامات، وفق ما شدد عليه شي، تمثل أقصى ما يمكن أن تقدمه الصين في ضوء قدراتها الحالية، وهي تحتاج إلى بيئة دولية منفتحة وصالحة حتى تتحقق على أرض الواقع.
الصين بين الطموح والتحديات
رغم الطابع الطموح لهذه الأهداف، فإن الطريق أمام الصين ليس مفروشاً بالورود. فالدولة ما زالت تعتمد بشكل كبير على الفحم كمصدر للطاقة، ويشكل قطاع الصناعات الثقيلة تحدياً ضخماً في تقليل الانبعاثات. كما أن التحول السريع نحو السيارات الكهربائية والبنية التحتية الخضراء يتطلب استثمارات ضخمة وتكنولوجيا متقدمة.
لكن في المقابل، تمتلك الصين مزايا نسبية مهمة: وفرة الموارد البشرية، قوة صناعية هائلة، وسوق محلية ضخمة تشجع على الابتكار. كما أن قيادتها السياسية أظهرت التزاماً واضحاً، وهو ما يعزز فرص نجاحها في الوفاء بوعودها.
البعد الجيوسياسي: المناخ كساحة تنافس
من اللافت أن خطاب شي لم يكن موجهاً فقط إلى المجتمع الدولي بشكل عام، بل حمل رسائل ضمنية إلى القوى الكبرى المنافسة للصين. ففي الوقت الذي تعاني فيه بعض الدول من التردد أو التراجع عن التزاماتها المناخية، تسعى بكين إلى ملء الفراغ القيادي، وتقديم نفسها كقوة مسؤولة تدافع عن مصلحة البشرية.
إن المناخ أصبح ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي، حيث تسعى الدول الكبرى إلى إبراز تفوقها التكنولوجي، والتأثير في مسارات التنمية العالمية. والصين، من خلال إعلانها الطموح، تحاول تعزيز نفوذها الناعم، وكسب ثقة الدول النامية باعتبارها “شريكاً عادلاً” لا يفرض إملاءات.
الجنوب العالمي في قلب المعادلة
ركز شي جينبينغ كثيراً على ضرورة حماية حق التنمية للدول النامية. وهذا يعكس إدراك الصين العميق بأن نجاح أي استراتيجية مناخية عالمية يتوقف على مشاركة هذه الدول، التي تمثل أكثر من ثلثي سكان العالم، وتعاني في الوقت ذاته من هشاشة اقتصادية أمام التغير المناخي.
فمن دون دعم مالي وتقني حقيقي، لن تتمكن هذه الدول من الانتقال إلى الطاقة النظيفة. وهنا تحاول الصين أن تلعب دور “الجسر” بين الشمال والجنوب، مقدمة نفسها كقائد لدول الجنوب، وفي الوقت ذاته كشريك لا غنى عنه للدول المتقدمة.
نحو مستقبل مشترك للبشرية
اختتم الرئيس الصيني خطابه بالتأكيد على أن تحقيق أهداف المناخ يتطلب إرادة جماعية وجهوداً متواصلة. فالمسألة ليست مجرد أرقام أو نسب مئوية، بل هي قضية وجودية تتعلق بمستقبل الأجيال القادمة.
وقال شي إن الصين لديها “العزيمة والثقة بالوفاء بوعودها”، داعياً جميع الأطراف إلى السير بخطى ثابتة نحو بناء مستقبل يتسم بالانسجام بين الإنسان والطبيعة، وحماية الأرض باعتبارها “البيت المشترك للبشرية”.
قراءة في الخطاب: ما وراء السطور
يمكن القول إن خطاب شي جينبينغ حمل عدة رسائل أساسية:
رسالة طمأنة إلى الدول النامية بأن الصين تدافع عن حقها في التنمية العادلة.
رسالة تحدٍ إلى الدول المتقدمة، بضرورة الوفاء بالتزاماتها وعدم التملص من مسؤولياتها.
رسالة طموح للعالم أجمع بأن الصين مستعدة لتحمل نصيبها من العبء، بل والتقدم في مقدمة الصفوف.
رسالة سياسية بأن الصين ليست فقط قوة اقتصادية وعسكرية، بل أيضاً قوة أخلاقية ومسؤولة على الصعيد البيئي.
خاتمة
في قمة المناخ 2025، لم يكن خطاب شي جينبينغ مجرد تصريح بروتوكولي، بل كان إعلاناً عن رؤية متكاملة لمستقبل التحول الأخضر عالمياً. رؤية توازن بين طموحات التنمية وضرورات حماية البيئة، وتدعو إلى عدالة مناخية حقيقية، وتضع الصين في موقع القيادة العالمية في واحدة من أهم قضايا القرن الحادي والعشرين.
لقد أصبح واضحاً أن التغير المناخي هو التحدي المشترك الأكبر للبشرية، وأن نجاح اتفاق باريس لن يقاس بالكلمات، بل بالأفعال. ومن هذا المنطلق، فإن التزامات الصين تمثل خطوة مهمة، لكن نجاحها يتوقف على مدى استعداد العالم بأسره للسير في الاتجاه نفسه.