اللعب بالمعاني… كيف وجّه الرئيس السيسي رسائل مركّبة للعالم ؟
ناصرعبدالحفيظ يكتب
مصر تعود إلى مقعد القيادة وتعيد تشكيل المشهد
منذ اللحظة الأولى لاشتعال الأزمة في غزة، لم تتعامل القاهرة بوصفها طرفاً مراقباً أو وسيطاً تقليدياً، بل كدولة تمتلك مفاتيح التوازن في المنطقة وتاريخاً طويلاً من صناعة التسويات الكبرى. تحرّكت مصر سياسياً وأمنياً وإنسانياً منذ اليوم الأول، فتصدّرت الاتصالات مع العواصم المؤثرة، وأدارت مفاوضات وقف إطلاق النار، واستقبلت الوفود الدولية، وفتحت معابر الإغاثة، وتحملت عبء التنسيق الإنساني والعسكري على حدود مشتعلة.
ومع تسارع التحولات الميدانية والضغوط الدولية والإقليمية، أعادت القاهرة تعريف الدور لا بوصفه استجابة للأزمة، بل باعتبارها صاحبة اليد العليا في هندسة ما بعد الحرب. وحين تقرّر أن يتحوّل مسار الاتصالات إلى اتفاق دولي يضبط شكل المرحلة المقبلة، كان من الطبيعي أن تنعقد القمة على أرض مصر، وأن تكون شرم الشيخ هي المنصة السياسية والرمزية التي يجتمع عندها العالم.
لحظة التوقيع لم تكن نهاية تحرّك، بل ذروة مسار قادته القاهرة بصبر استراتيجي، وصولاً إلى مشهد وضع فيه الرئيس المصري بصمته وخطابه وتوقيعه… تحت اسم واحد: «رئيس جمهورية مصر».
ومن هنا تبدأ قراءة الرسائل التي لم تُقَل بصوت مرتفع، لكنها وُجّهت بدقة إلى من يعنيهم الأمر في تل أبيب والعواصم الكبرى.
⸻
أولاً: تجاوز الحكومة… ومخاطبة الشعب كطرف في المعادلة
مرّتين وجّه الرئيس السيسي رسائل مباشرة إلى الشعب الإسرائيلي، داعياً إياه لمدّ الأيدي لتحقيق السلام. هذا الخطاب يتجاوز عمداً حكومة الاحتلال ويضع المسؤولية في يد الرأي العام لا القيادة السياسية.
هذه المقاربة تحمل دلالات سياسية عميقة:
• نزع الشرعية الأخلاقية عن القيادة المحتلة بإسقاطها من مقام المخاطبة.
• فتح قناة تأثير إعلامية ومجتمعية داخل إسرائيل تربك النخب السياسية وتعيد تعريف أطراف الصراع.
ثانياً: تغييب ممثل الاحتلال… وإسقاط الشرعية عن حضوره الدولي
لم تتم توجيه الدعوة من الأساس لرئيس حكومة الاحتلال، وهو تغييب متعمَّد لا يرتبط بالشكليات أو الأعذار الدبلوماسية، بل يعكس رؤية سياسية واعية:
• استبعاد متعمَّد لمن لا يمتلك أي مشروعية أخلاقية أو إنسانية.
• غيابه عن القمة أتاح للرئيس المصري أن يخاطب الشعب مباشرة، دون الاضطرار للاعتراف السياسي بالقيادة الحالية.
ثالثاً: استدعاء السادات عبر «القدس» — دلالة لغوية محسوبة
عندما استحضر السيسي زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، استخدم كلمة «القدس» وليس «إسرائيل». هذا الاختيار اللفظي ليس عفوياً؛ إنه استرجاع للخطاب العربي وتأكيد على أن الشرعية الرمزية للسلام تُبنى من الأرض والتاريخ، لا من توصيفات دولة الاحتلال.
رابعاً: شرم الشيخ… منصة رمزية واستراتيجية
اختيار شرم الشيخ لعقد القمة لم يكن تفصيلاً بروتوكولياً. المدينة نفسها كانت ميداناً قاتل عليه الاحتلال ثم فُرِض عليه الخروج منه، وتحولت لاحقاً إلى رمز لاستعادة الإرادة والسيادة المصرية. الخطاب المنطلق من هناك يحمل معنى واضحاً: مصر لا تتحرك من موقع رد الفعل، بل من أرض استعادت قرارها وذاكرتها.
خامساً: ترامب وإعادة إعمار غزة… توظيف الشريك الدولي
إشراك الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإسناد ملف إعادة إعمار غزة إلى دوره الدولي المحتمل كان خطوة سياسية مركّبة:
• القاهرة تُبقي الملف تحت سقف دولي ثقيل الوزن يحميه من الابتزاز السياسي.
• تحويل الشريك الأميركي من مراقب إلى فاعل في مرحلة ما بعد الحرب يمنح مصر تفويضاً أوسع وقدرة على إدارة الملف بأدوات اقتصادية ودبلوماسية لا تتوفر للآخرين.
سادساً: التوقيع باسم «جمهورية مصر»… إشارة إلى هوية حضارية مستقلة
أثناء التوقيع الرسمي، ظهر التعريف بصفته: «رئيس جمهورية مصر» من دون إضافة كلمة «العربية». هذه الصيغة الجديدة تعكس تحولاً واعياً في بناء الهوية السياسية، يضع مصر في إطارها الحضاري والتاريخي الأوسع، ويحرر خطابها من القيود الأيديولوجية التقليدية. إنها رسالة ناعمة لكنها مدروسة: الدولة تتحرك بذاتها ووزنها وتاريخها.
الخلاصة
الخطاب لم يكن حدثاً بروتوكولياً، بل بنية استراتيجية مركّبة من ست أدوات:
• مخاطبة الشعوب بدلاً من الحكومات،
• تغييب ممثلي الاحتلال عن منصة الشرعية،
• استدعاء الرموز التاريخية بلغة عربية خالصة،
• اختيار موقع له ذاكرة سياسية وعسكرية ثقيلة،
• توظيف شريك دولي بحسابات ما بعد الحرب،
• وإعادة تعريف الهوية المصرية بتوقيع محسوب.
هكذا صيغ «الخطاب الموازي» من تحت السطح… حيث تُصنع السياسة الفعلية، لا في الجُمل المعلنة فقط، بل في الهوامش والاختيارات والإشارات التي لا يمكن تجاهلها