مقالات رأي

“نظرية الجبلين” تُمكّن الصين والعالم من بناء مستقبل أخضر

نور يانغ 

يصادف هذا العام الذكرى العشرين لإطلاق الرئيس الصيني شي جين بينغ مقولته الشهيرة: “المياه الصافية والجبال الخضراء هي كنوز لا تقدر بثمن”، والتي عُرفت لاحقًا بـ”نظرية الجبلين”. ومنذ ذلك الحين، تطورت هذه الفكرة لتصبح جوهر فكر شي جين بينغ حول الحضارة البيئية، والمبدأ الموجه لبناء “صين جميلة”، كما اندمجت تدريجيًا في فلسفة التنمية الصينية في العصر الجديد، مقدّمة نموذجًا عالميًا للتنمية الخضراء والمستدامة.

خلال السنوات الأخيرة، تعمقت جهود الصين على المستويات المؤسسية والقانونية والعملية لتعزيز الحضارة البيئية، مما سرّع وتيرة التحول الأخضر بشكل ملحوظ. فقد أصبحت الصين اليوم تمتلك أكبر وأسرع منظومة للطاقة المتجددة نموًا في العالم. وبحلول نهاية عام 2024، بلغت القدرة التراكمية المركبة للطاقة المتجددة 1889 جيجاوات، متصدّرة الترتيب العالمي. كما شكّلت الطاقة المتجددة 86% من القدرة الجديدة المُضافة لتوليد الكهرباء في ذلك العام. وفي جانب آخر، ساهمت الصين وحدها بربع المساحات الخضراء الجديدة عالميًا، لتصبح صاحبة أسرع وتيرة في “تخضير الأرض”.

وتعتمد الصين في استراتيجيتها التنموية على دمج التنمية الخضراء ومنخفضة الكربون وعالية الجودة، واضعة حماية البيئة في صدارة الأولويات. ففي الحزام الاقتصادي لنهر اليانغتسي، جرى تبنّي مبدأ “الحماية أولًا” بدل التوسع الصناعي المكثف، وفي هضبة تشينغهاي والتبت تُنفذ استراتيجيات صارمة لحماية النظام البيئي. كما تحولت مكافحة التلوث، والرقابة على التعدين، وحماية المياه والغابات إلى قواعد ملزمة تعكس التطبيق العملي لـ”نظرية الجبلين”.

وعلى المستوى المؤسسي، وضعت الصين آليات فعالة مثل التعويضات البيئية، وتطوير التشريعات الخاصة بحماية الموارد المائية، وإنشاء نظام قضائي بيئي متكامل، إضافة إلى تطبيق نظام “رؤساء الأنهار والبحيرات”. وتُعد تجربة بحيرة تايهو مثالًا بارزًا: فبعد سنوات من الحوكمة المستمرة، ارتقت جودة مياهها في عام 2024 إلى “الفئة الثالثة”، وهو إنجاز تاريخي يجسد فعالية الإدارة طويلة الأجل.

كما أسهمت إعادة هيكلة الاقتصاد في دفع التحول الأخضر. إذ يجري تدريجيًا التخلص من الصناعات عالية التلوث وكثيفة الاستهلاك للطاقة، فيما تزدهر قطاعات الطاقة الجديدة والنظيفة بسرعة. ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، احتلت الصين المركز الأول عالميًا في تركيب قدرات جديدة من الطاقة الشمسية عام 2023. أما الصناعات الناشئة مثل السيارات الكهربائية، وطاقة الرياح، وحماية البيئة، فقد أصبحت محركات رئيسية للابتكار وخلق فرص العمل، إلى جانب تعزيز موقع الصين في سلاسل التوريد الخضراء عالميًا.

ولم يقتصر الأمر على الاقتصاد، بل شمل أيضًا الأبعاد الاجتماعية والثقافية. ففي الريف، تُشجّع آليات التعويض البيئي المزارعين على المشاركة في استعادة النظم البيئية. أما في المدن، فقد ارتفعت جودة الهواء واتسعت المساحات الخضراء العامة. كما أسهم التعليم البيئي في ترسيخ وعي جماهيري انتقل من “واجب حماية البيئة” إلى “رغبة ذاتية في حمايتها”. وهكذا، تكامل الإطار القانوني مع الوعي الثقافي ليشكلا قوة اجتماعية واسعة لبناء “صين جميلة”.

على الصعيد الدولي، أصبحت فلسفة الصين البيئية وممارساتها ذات أثر ملموس. فبصفتها طرفًا فاعلًا في اتفاقية باريس، تدفع الصين نحو استثمارات خضراء وتعاون بيئي عالمي. ويظهر ذلك في مشاريع الطاقة النظيفة والبنية التحتية المستدامة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا. فعلى سبيل المثال، اعتمد ميناء تشانكاي في بيرو، وهو أحد مشاريع “الحزام والطريق”، معايير صديقة للبيئة خفضت ضوضاء البناء وتلوث الغبار بنسبة 40%، ورفعت معدلات إعادة تدوير المياه العادمة بأكثر من 25%، وحافظت على موائل الطيور المحلية.

كما تقدم التجربة الصينية حلولًا عملية لمناطق مثل إفريقيا والشرق الأوسط التي تعاني من ندرة المياه وتدهور الأراضي. فمن خلال اعتماد الطاقة الجديدة، وتطوير تقنيات ترشيد الاستهلاك، وخفض الانبعاثات، تمنح الصين تلك الدول مسارًا واقعيًا للتحول الأخضر ومواجهة التغير المناخي.

ومع تزايد التحديات العالمية أمام التنمية المستدامة، تواصل الصين تعزيز أنماط الإنتاج والاستهلاك الأخضر، وتوسيع استخدام الطاقة الجديدة في مجالات النقل والبناء، وتطوير أسواق الكربون وآليات ضبط الانبعاثات. وهكذا، فإن “نظرية الجبلين” لا تختصر فقط تجربة الصين في بناء حضارة بيئية، بل تمثل أيضًا مصدر إلهام عالمي يؤكد أن التنمية الخضراء ليست عائقًا أمام التقدم، بل ركيزة لتنافسية جديدة وضمانة لرفاهية الشعوب.