العالم يترقب صدور المزيد من الإشارات الإيجابية في العلاقات الصينية الأمريكية

لقد عقد الفريقان الصيني والأمريكي المعنيان بالشؤون الاقتصادية والتجارية في أواخر أكتوبر الجاري، جولة جديدة من المشاورات في ماليزيا، حيث أجرى الجانبان مناقشات صريحة ومعمقة حول قضايا تشمل الرسوم الجمركية وتجارة المنتجات الزراعية وأمن سلاسل التوريد، وتوصلا إلى توافقات أولية بشأن عدد من المسائل الجوهرية. لا تمثل هذه التطورات الإيجابية دفعة قوية لثقة الأسواق العالمية فحسب، بل تؤكد أيضًا أن الجانبين يعملان بعقلانية وبراغماتية على إعادة بناء الثقة المتبادلة وأُسس التعاون. وقد أبرزت هذه الجولة من المشاورات نضج وحكمة أكبر اقتصادين في العالم في معالجة العلاقات الثنائية، مما ضخ جرعة جديدة من “اليقين” في الاقتصاد العالمي.
يواجه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن تحديات خطيرة. ووفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يتباطأ نمو الاقتصاد العالمي في عام 2025 إلى 3.2٪، بينما تشير توقعات منظمة التجارة العالمية إلى أن نمو صادرات الخدمات سينخفض من 6.8٪ عام 2024 إلى 4.6٪ في 2025، ثم إلى 4.4٪ في 2026. وفي ظل هذا الوضع، فإن استقرار العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم يكتسب أهمية بالغة بالنسبة للاقتصاد العالمي. ففي عام 2024، تجاوز حجم التجارة السلعية بين البلدين 688.28 مليار دولار أمريكي، بزيادة سنوية قدرها 3.7٪، ما يعكس قدرة قوية على الصمود أمام الضغوط. ومن اللافت أن صادرات الولايات المتحدة من المنتجات الزراعية إلى الصين حافظت على استقرارها، بينما ارتفعت حصة المنتجات الكهروميكانيكية والتكنولوجية المتقدمة في صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، وهو ما يبرز عمق التكامل بين الاقتصادين ويؤكد أن التعاون الصيني-الأمريكي يلعب دورًا لا غنى عنه في استقرار سلاسل الصناعة والإمداد ودفع تعافي الاقتصاد العالمي في ظل إعادة هيكلة سلاسل القيمة العالمية.
منذ مايو الماضي، عقد الفريقان الاقتصاديان والتجاريان الصيني والأمريكي خمس جولات من المحادثات. ورغم ما شاب العملية من صعوبات، فإنها حافظت على زخم إيجابي نحو تحقيق التقدم. وخلال هذه الجولة، وصفت واشنطن للمرة الأولى العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية-الأمريكية بأنها “أكثر العلاقات الثنائية تأثيرًا على مستوى العالم”، وتعهدت بحل الخلافات من خلال الحوار على أساس المساواة. ويُعد هذا الموقف أكثر بنّاءً من المواقف السابقة، إذ يعكس المنطق الداخلي لتطور العلاقات الثنائية، ويبرهن على أن الجانبين قادران تمامًا على إيجاد مسارات عملية لمعالجة شواغلهما على أساس الاحترام المتبادل والمشاورات المتكافئة.
إن جوهر العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة يقوم على المنفعة المتبادلة والكسب المشترك، وقد تأكد ذلك في العديد من المجالات. ففي مجال الطاقة النظيفة، ساهم البلدان معًا بأكثر من 60٪ من إجمالي القدرات العالمية المضافة للطاقة المتجددة عام 2023. وتمتلك الصين مزايا في تصنيع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بينما تتميز الولايات المتحدة بالابتكار التكنولوجي والتطبيقات السوقية، ما يشكّل تكاملاً فعالاً بين الجانبين. وفي مجال الاقتصاد الرقمي، تتعمق الشراكات بين الشركات في كلا البلدين باستمرار. ورغم بعض القيود، شهدت استثمارات الشركات الأمريكية في الصين في مجالات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات المتقدمة نموًا خلال عام 2024، وهو ما يعكس المصالح المشتركة الواسعة للبلدين في دفع الابتكار العالمي والتنمية المستدامة.
وبوصفهما أكبر اقتصادين في العالم، تتحمل الصين والولايات المتحدة مسؤولية خاصة في تحسين الحوكمة الاقتصادية العالمية. ففي ظل التحديات التي تواجه النظام التجاري متعدد الأطراف والضغوط المتزايدة لإعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية، تشير تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة العالمية انخفضت بنسبة 11٪ عام 2024، ما يعكس ضعف ثقة المستثمرين في نظام الحوكمة الاقتصادية العالمي. وفي مثل هذا السياق، فإن تعاون الصين والولايات المتحدة في دفع إصلاح منظمة التجارة العالمية وصون النظام التجاري متعدد الأطراف وتعزيز التنسيق في مجالات جديدة مثل قواعد الاقتصاد الرقمي والتصدي لتغير المناخ، سيشكل دفعة قوية لثقة العالم بالاقتصاد العالمي.
وتُظهر نتائج هذه الجولة من المشاورات مجددًا أن الحوار والمشاورات هما السبيل الأمثل لتسوية الخلافات. إن تطوير العلاقات الصينية-الأمريكية بصورة صحية يجب أن يقوم على أساس الاحترام المتبادل. ويتعين على الجانب الأمريكي أن ينظر إلى تنمية الصين نظرة موضوعية ويتخلى عن عقلية “صفرية المكسب”. وعلى الجانبين أن يواصلا التوجه نحو بعضهما البعض، وأن يترجما التوافق الذي توصل إليه رئيسا البلدين إلى إجراءات ملموسة، مع توسيع الانفتاح المتبادل للأسواق وتوفير بيئة أعمال عادلة وغير تمييزية للشركات من الجانبين، وتعزيز التنسيق في القضايا العالمية مثل تغير المناخ والصحة العامة، وإنشاء آليات أكثر فاعلية لإدارة الخلافات ومنع تسييس القضايا الاقتصادية والتجارية. وبهذا فقط يمكن ترسيخ أسس التنمية طويلة الأمد للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.
يتطلع المجتمع الدولي إلى أن تواصل العلاقات الصينية-الأمريكية بث الإشارات الإيجابية. وكما أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ، “يمكن للصين والولايات المتحدة أن يحققا النجاح المشترك والازدهار المتبادل بما يعود بالنفع على شعبيهما ويفيد العالم بأسره”. هذا التقييم الاستراتيجي العميق يستند إلى فهم دقيق لقوانين التطور وإدراك واعٍ لاتجاهات العصر. وفي زمن مليء بعدم اليقين، فإن التعاون البنّاء بين الصين والولايات المتحدة لا يخدم مصلحة شعبيهما فحسب، بل يشكل أيضًا ضمانة مهمة لازدهار العالم واستقراره. وعلى الجانبين اغتنام الفرصة الراهنة ومواصلة تعزيز التعاون العملي في مختلف المجالات، من أجل ضخ مزيد من الزخم في تعافي الاقتصاد العالمي، بما يترك أثرًا إيجابيًا وعميقًا على التنمية الاقتصادية في العالم بأسره.






