مقالات رأي

في الشارقة .. بينك وبين الكتاب وعي وتغيير ونهضة

بقلم / أحمد سالم البيرق

العلاقة بين الإنسان والكتاب ليست مجرد علاقة قارئ لمادة مكتوبة، بل هي علاقة فكرية تُجسِّد موقع الإنسان في رحلة المعرفة والوعي، تمتد من العين إلى الروح؛ فالكتاب مرآةٌ لما سلف، ورفيقٌ لما هو آت، وجسرٌ بين الماضي والمستقبل، وبين الفكر الفردي والوجدان الجمعي، وبين الكلمة والفعل، وبين الحلم والواقع وبين ما هو مخطط له وما يراد النهوض به، وما نسعى للوصول إليه.

الكتاب ليس ترفًا ثقافيًا، بل هو أساس لتماسك المجتمع وازدهاره، والكتاب لا يعيش في رفوف العزلة، بل في قلب المجتمع؛ فالمجتمعات التي تقرأ تتحدث لغةً مشتركة، وتملك وعيًا جمعيًا يربطها بالمصير الإنساني المشترك، والقراءة تصنع إنساناً فاعلًا يعي حقوقه وواجباته، ويشارك في بناء وطنه بعقل منفتح، لا بعاطفة عابرة.

من بُعدٍ آخر فإن العلاقة بين الإنسان والكتاب علاقة تحرر وانفتاح؛ فالكتاب الذي يوقظ الفكر يحرر الإنسان من الاتكالية والخضوع والتبعية، ويمنحه القدرة على التفكر والتدبر والتحليل، مما يساهم في مقاومة المفاهيم ووجهات النظر والأفكار الضلالية التضليلية، وكل كلمةٍ تُقرأ هي انتصار على الجهل، ومن يقرأ لا يُستعبد.

ومن خلال الكتاب نستثمر في رأس المال البشري؛ فكل كلمة تقرأ هي مشروع إنتاج فكري تخلق فرصة جديدة للمعرفة والإبداع وتنمية العقول، وكل قارئ واعٍ هو ركيزة نابعة من ذلك الاستثمار، ومن خلال الكتاب أيضا ننمي صناعة النشر، وندعم المؤلفين والمترجمين، ونطور الاقتصاد المعرفي الذي يسهم في بناء مجتمعات قادرة على الإبداع والتنافس.

ومما لا شك فيه أن الكتاب هو المربي الصامت، يعلّم الإنسان الإنصات للآخر، ويزرع في داخله قيم التسامح والرحمة وآداب الحوار، والقراءة تفتح أبواب القلب قبل العقل، وتحرّر الإنسان من أنانيته، فيتسع للآخرين المختلفين في اللون أو الدين أو اللغة، الكتاب يجعلنا نعيش حيوات كثيرة، فنصير أكثر تواضعًا وأكثر إنسانية.

وكذلك الكتاب هو المعلم الأول الذي لا يملّ ولا يغضب ولا يتعب؛ فهو الذي يمسك بيد طفل ويصوغ عقله ليرى العالم بعين أكبر، ويغذي خيال الشاب ويزرع فيه فكرة تثمر حكمة، ويهذب ذوق الكبير الذي به تدور دورة الحياة فيعيد ما استقاه لمن سيورد بعده، وغرس حب الكتاب في الأجيال هو أعظم منهج تربوي يمكن أن يقدمه الأب لأبنه والمعلم لطلبته والمجتمع لفرده، لأن القراءة تصنع الإنسان المستقل الذي يفكر ويسأل ولا يُقلّد.

الكتاب هو نواة التحوّل الحضاري، وبه تتشكل كل نهضة، ما من حضارة نهضت إلا وسبقتها مكتبة، وبهجر الكتاب والمكتبات تذبل المعرفة وتتراجع الحضارة، وفي العلاقة بينك وبين الكتاب تكمن شعلة الوعي، التي تنير لك دروب التغيير، فحين يقرأ الإنسان يتغيّر، وحين يتغيّر الفرد ينهض المجتمع.

ما بينك وبين الكتاب لا يقاس بعدد الكلمات والصفحات، بل بمستوى الإدراك والفهم واليقظة والشعور والانتباه والإحساس والإلمام والمعرفة وكل ما يعتريك وينتابك ويتملكك ويستقر بداخلك ويتركه الكتاب فيك.

ما بينك وبين الكتاب يعيد ترتيبك من الداخل، ليجعلك أكثر قربا من مسؤلياتك الإنسانية وأكثر حفاظا عليها واهتماما بها.
إمارة الشارقة في ظل قيادة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة تُجسّد المعنى العميق للعلاقة بين الإنسان والكتاب، فهي لم تكتفِ بأن تكون مدينة تشيد المكتبات وتقيم المعارض أو تطبع الكتب، بل جعلت من القراءة مشروعًا تنموياً إنسانيًا شاملاً؛ فأعادت تعريف العلاقة بين الإنسان والكتاب – في زمنٍ تتراجع فيه القراءة الورقية أمام شاشات الهواتف النقالة وأجهزة الحاسوب – من خلال تقديمها نموذجا فريدا في التعاطي مع الكتاب وجعله قادرا على بناء الإنسان فكريا وأخلاقيا وتطوير المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا، وبناء حضارة راسخة وتحقيق التقدم لها.

في الشارقة بينك وبين الكتاب مسافة وعي وخطة تغيير ومسير نهضة.